فصل: الشورى في غزوة الأحزاب وحفر الخندق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية



.الشورى في غزوة أحد:

لقد ذكرت كتب السنة والسيرة النبوية في أخبار هذه الغزوة أخباراً متقاربة في المعاني والألفاظ، وأن زعماء اليهود والمشركين قد بذلوا جهوداً في إثارة الحمية الجاهلية لدى القرشيين للانتقام لقتلاهم يوم بدر من الرسول والمسلمين، ولتستعيد قريش مكانتها التي تزعزعت بسبب الهزيمة التي منيت بها في غزوة بدر، أضف إلى ذلك أن القرشيين كانوا يرغبون في تأمين طرق تجارتهم إلى الشام، بالإضافة إلى أنهم كانوا يحرصون على القضاء على جماعة المسلمين قبل أن تتعاظم قوتهم.
هذه أهم الأسباب والدوافع التي جعلت قريشاً تجيش جيشاً قوياً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل من قريش وممن تابعها من قبائل كنانة وأهل تهامة ومعهم مائتا فرس، ولما كانت سياسة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تقوم على الشورى وكانت قريش قد وجهت هؤلاء الجند في العام الثالث الهجري إلى المدينة فقد استشار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة رضوان الله عليهم، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يرى البقاء في المدينة وقتال المشركين فيها وقد تحصن المسلمون فيها وهي نظرة حصيفة؛ لأنه إن دخل العدو قاتله الرجال في الشوارع والأزقة ورماهم النساء والصبيان من سطوح الحصون والمنازل ومنافذها فيكون ذلك أدعى لهزيمة العدو، وهو ما يسمى في هذا العصر بحرب الشوارع أو حرب المدن.
قال ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فإن رأيتم أن تقيموا في المدينة وتدَعُوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوها علينا قاتلناهم فيها. وكان رأي عبدالله بن أبي بن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرى رأيه في ذلك وأن لا يخرج إليهم، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكره الخروج فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيته فلبس لأمته (درعه) وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له مالك بن عمر أحد بني النجار فصلى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا استكرهنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن لنا ذلك فلما خرج عليهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا رسول الله استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليك. فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» فخرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ألف من الصحابة. قال ابن هشام واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة. قال: ابن إسحاق حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد انخذل عنه عبدالله بن أبي بن سلول بثلث الناس وقال أطاعهم وعصاني ما ندري على ما نقتل أنفسنا هنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق والريب. قال ابن إسحاق: ومضى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي من الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال: «لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمره بالقتال»، وقد سرّحت قريش الظهر والكراع بزروع كانت بالصمغة من قناة المسلمين. فقال رجل من الأنصار حين نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن القتال: أترعى زروع بني قيلة ولمَّا نضارب وتعبأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال وهو في سبعمائة رجل وأمّر على الرماة عبدالله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف وهو مُعلمٌ يومئذ بثياب بيض والرماة يومئذ خمسون رجلاً فقال: «انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتون من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك». وجاء في رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «انضحوا الخيل عنا لا يأتون من ورائنا إن كانت لنا اثبتوا مكانكم لا نؤتين من قبلكم الزموا مكانكم لا تبرحوا عنه وإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل في معسكرهم فلا تبارحوا مكانكم وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا وارشقوهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل إنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم اللهم إني أشهدك عليهم»، ومما يجدر ذكره أن الذي جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرى البقاء للقتال في المدينة ليقاتلوا فيها أنه رأى الرؤيا التي رآها وحدث بها المسلمين فقال: «إني قد رأيت والله خيراً رأيت بقراً تذبح ورأيت في ذباب سيفي ثلماً ورأيت أني أدخل يدي في درع حصينة فأولتها المدينة».
وقد جاء في تفسير هذه الرؤيا أن البقر التي تذبح أنه يستشهد نفر من أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم وأن سيفه يثلم أي أنه يقتل رجل من أهل بيته فكان عمه حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله، وحصل ما حصل من القتل في أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم فقال بعض أصحابه منهم نعيم بن مالك بن ثعلبة وهو من بني سالم يا رسول الله لا تحرمنا الجنة فوالذي نفسي بيده لأدخلنها. وقال أبو سعد خيثمة وكان ابنه خيثمة قد استشهد في غزوة بدر لقد أخطأتني غزوة بدر وكنت والله حريصاً عليها حتى ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ويقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقتل شهيداً. وقال عبدالله بن جحش يا رسول الله إن هؤلاء القوم قد نزلوا حيث ترى وقد سألت الله فقلت اللهم إني أقسم عليك أن نلقى العدو غداً فيقتلونني ويمثلون بي فألقاك مقتولاً قد صنع بي فتقول فيما صنع بك هذا؟ فأقول: فيك.
وأسألك أخرى أن تلي تركتي من بعدي فقال: «نعم». وقال حمزة بن عبدالمطلب: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعماً حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة. وقال إياس بن أوس بن عتك نحن بني الأشهل وإنا نرجو أن نكون البقر التي تذبح. وقال النعمان بن مالك: يا رسول الله لا تحرمنا الجنة فوالذي نفسي بيده لأدخلنها والبقر المذبح من أصحابك وأنا منهم.
قال الإمام البخاري في صحيحه: وشاور النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه يوم أحد في المقام أو الخروج فرأوا له بالخروج، فلما لبس لأمته وعزم قالوا أقم فلم يمل إليهم بعد العزم فقال: «لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله».
والذي يستفاد من قوله: (فرأوا له الخروج) بصيغة الجمع هو أن الذين رأوا الخروج عامة الصحابة أو أكثرهم عبر عنهم جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاتهم الخروج يوم بدر فلا يحمل ذلك إلا عليه فلم يبق مجال للتظنن أو الاستشكال الذي أورده بعض العلماء المعاصرين، والذي يستفاد من هذه القصة الأمور التالية:
1- أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ينفرد برأيه في الحرب وهو المسدد بالوحي والمعونة من الله بل كان يستشير.
2- أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من الاستماع لرأي أصحابه في الشورى ومداولتهم ومناقشتهم المستفيضة دون كلل أو ملل.
3- أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نزل عن رأيه وأخذ برأي الأكثرية التي خالفت رأيه ولم يتعصب لرأيه أو يحمل الأمة عليه.
4- أن جمهور الصحابة لما رجعوا عن رأيهم إلى رأيه لم يوافقهم صلى الله عليه وآله وسلم في رجوعهم إلى رأيه، وهذا يعني أن الحاكم لا يجوز له أن يتبع هواه فإذا خرج الأكثرية برأي كان على ولي الأمة أن يتبناه ولا يناور في محاولة تغيير رأي الآخرين إلى رأيه، يؤيد هذا قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} والعزم هنا مشاورة الناس واتباع رأي الأغلبية، روى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن العزم في قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} قال: «مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم».
ويستفاد من القصة أيضاً أن رأي الرسول في البقاء في المدينة لم يكن خطأ ولا باطلاً وأن رأي الصحابة أيضاً لم يكن فيه مجانبة للصواب، يدل على ذلك أنهم أحرزوا نصراً في أول المعركة وبدايتها وكادوا يكسبون الجولة التامة وأن قوى الشرك بدأت تتدهور وتتقهقر ولكن مخالفة الرماة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث أنهم لم يبقوا في الجبل واجتهادهم الخاطئ بالنزول لإمساك الغنائم قبل فواتها هو الذي أدى إلى قلب المعركة رأساً على عقب لأنه اجتهاد في مقابلة نص، ولأن فيه مخالفة لأوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي أمرهم بالبقاء وعدم التحرك والخروج عن طاعة ولي الأمر وعن طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان سبباً رئيساً في حصول تقهقر المسلمين والقرآن على ذلك شاهد. وفي ذلك يقول الحق: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
وهذه النصوص تكشف بجلاء أسباب ما وقع فيه المسلمون من خطأ ولكن الحق سبحانه وتعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعفو عن المؤمنين وأن يستغفر لهم وأن يشاورهم في الأمر إذ يقول جل وعلا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} فلم يجعل القرآن المجيد حصول بعض المخالفات أو نزول فاجعة أليمة مسوغاً لاعتزال الشورى مستقبلاً بل جاءت هذه الآيات من عند الله لتثبت العمل الشوروي وترسخه بصفة الأمر الذي تفيد الوجوب في معظم أحواله، فالرسول وهو النبي المعصوم يؤمر بالتشاور وهذا الموقف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دليل قوي على أن الشورى للحاكم والأمير ملزمة في مثل هذه الأحوال وأنه لا مناص من الأخذ بها إذا ما أراد الحاكم أن يقتدي بهدي النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ففي ذلك الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.

.الشورى في غزوة الأحزاب وحفر الخندق:

لقد حكت كتب السير أن اليهود لما رأوا انتصار المسلمين يوم أحد خرج بعض أشرافهم إلى قريش يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال ابن هشام أنها كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس وأنه كان من حديث الخندق أن نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري وحيي بن أخطب النضري وكنانة بن أبي الحقيق النضري وهوذة بن قيس الوائلي وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرجوا حتى قدموا على قريش مكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد فديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين أنزل الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُم اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} قال ابن هشام: فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاجتمعوا لذلك واتحدوا له، ثم خرج ذلك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه وأن قريشاً قد تابعوهم على ذلك فاجتمعوا معهم فيه.
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة ومسعر بن رخيله بن نويرة بن طريف بن شحمة بن عبدالله بن هلال بن خلاوة فيمن تابعه من قومه من أشجع. قال ابن هشام فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة، وقال ابن هشام أن سلمان الفارسي كان قد أشار على النبي صلى الله عليه وآله وسلم به قال حدثني أهل العلم أن المهاجرين يوم الخندق قالوا سلمان منا وقالت الأنصار سلمان منا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سلمان منا أهل البيت»، وجاء في بعض كتب السير أنه: لما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزحفهم إلى المدينة وتحزب الأحزاب لقتال المسلمين استشار أصحابه أيقيمون في المدينة أم يخرجوا للقاء العدو، وهناك أشار سلمان الفارسي رضي الله عنه بضرب الخندق وكانت خطة حربية متبعة عند الفرس، قال سلمان يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا فهل لك يا رسول الله أن نخندق؟ فأعجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأي سلمان فأخذ برأيه، فجعل جبل السلع خلف ظهره وخط لهم مكان الخندق وعمل معه المسلمون فدأب فيه ودأبوا وكان البرد شديداً ولا يجدون من القوت إلا ما يسد الرمق وقد لا يجدونه، ويقول أبو طلحة شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بطنه حجرين، ويقول أنس رضي الله عنه خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون لهم ذلك فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
اللهم إن الأجر أجر الآخره ** فارحم الأنصار والمهاجره

فقالوا مجيبون له:
نحن الذين بايعوا محمداً ** على الجهاد ما بقينا أبدا